الإعلان العالمي لحقوق الإنسان- قراءة في الجهل والخصوصية و"الغرب فوبيا"

المؤلف: د. منصف المرزوقي09.26.2025
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان- قراءة في الجهل والخصوصية و"الغرب فوبيا"

في عام 1973، وبينما كنت منهمكًا في إعداد أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه في الطب من جامعة ستراسبورغ، والتي تمحورت حول التجارب الطبية اللاإنسانية التي أُجريت على البشر في معسكرات الاعتقال النازية والسجون الأميركية، اطلعت للمرة الأولى على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أُقر في العاشر من ديسمبر/كانون الأول عام 1948 في باريس، برعاية الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وللحقيقة، لم أعرِ هذا النص اهتمامًا بالغًا في ذلك الوقت، ولم يخطر ببالي أبدًا أنه سيتبوأ مكانة مركزية في مسيرة حياتي. كان مجرد مرجع عابر ضمن جملة المصادر التي استندت إليها في صياغة الجانب الأخلاقي والقانوني من الأطروحة، والذي تناول الفظائع التي ارتُكبت باسم التقدم العلمي، وكان أبطالها أطباء تاهوا في ظروف مروعة، فجعلوا الإنسان حقل تجارب لا يختلف عن الحيوان.

إلا أنني عدت إلى هذا النص مجددًا في عام 1981، حينما انضممت كعضو في "الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان"، تلك المنظمة التي كانت تضم في صفوفها نخبة من المثقفين والناشطين التونسيين، والتي كانت تنادي، في ظل نظام قمعي خانق، بحق الشعب التونسي في حرية الرأي والتعبير والتنظم، وبالأخص رفضها القاطع للتعذيب بكافة أشكاله.

وفي عام 1984، تم انتخابي كعضو في الهيئة المديرة للرابطة، ثم انتُخبت رئيسًا لها في عام 1989، وظللت على رأس هذه المنظمة العريقة حتى وقع الانقلاب عليّ والإطاحة بي منها، بعد أن عقدت السلطة العزم على الاستيلاء عليها، وهو ما تحقق بالفعل في عام 1994.

طوال تلك السنوات، اختبرت عن كثب ثلاث ظواهر أساسية، لازمت هذا النص الذي تحول بالنسبة لي إلى منارة يهتدى بها، وسلاح لا يضاهى في جميع المعارك السياسية والفكرية التي خضتها: أولًا، الجهل العميق بمضامينه وأبعاده؛ ثانيًا، رفضه بدعوى الخصوصية الثقافية؛ وأخيرًا وليس آخرًا، "فوبيا الغرب" التي ما زالت تلقي بظلالها القاتمة عليه حتى يومنا هذا، وتحول دون انتشاره على النحو الذي يستحقه في عالمنا العربي.

بين الجهل البسيط والجهل المركب

في بدايات انخراطي في الرابطة، توجهت إلى أحد أعضاء الهيئة المديرة، وكان محاميًا ذاع صيته – وسيصبح فيما بعد نقيبًا للمحامين – كي يشرح لي، بصفتي طبيبًا يفتقر إلى الإلمام بتعقيدات القانون، مفهوم "الشخصية القانونية" الوارد في الفصل السادس. فما كان منه إلا أن حدّق فيّ بذهول، وبادلته النظرة نفسها، لأكتشف أنه بدوره يجهل مضمون الفصل السادس، ولا يعي معنى "الشخصية القانونية" التي يتضمنها هذا الفصل.

ولم تكن هذه المفاجأة الأولى لي، إذ اكتشفت بالتجربة أن العديد من المنخرطين في الرابطة إما لم يقرؤوا الإعلان إطلاقًا، رغم أنهم يستشهدون به في كل مناسبة، أو أن معرفتهم به لا تتعدى الاطلاع السطحي على نصوصه، دون إدراك تاريخه الطويل والصراعات التي رافقت ولادته.

ناهيك عن جهلهم التام بجميع المعاهدات والاتفاقيات التي انبثقت عنه، كما تنبثق الأغصان من جذع الشجرة (مثل الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب لعام 1984)، والتي شكلت ولا تزال جزءًا لا يتجزأ من بنية القانون الدولي.

لذلك، جعلت من أبرز أولوياتي، بعد تعييني رئيسًا للرابطة في عام 1989، التركيز على التكوين والتثقيف، وعملت بجد على تنظيم لقاءات وندوات في مختلف أنحاء البلاد، بهدف دراسة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ثم تبلورت لدي فكرة تأليف كتاب "الإنسان الحرام" – وهو متاح على موقعي الإلكتروني – والذي عرضت فيه قراءتي الخاصة للإعلان، وكيفية تفسيره، وذلك على ضوء دراسة معمقة لتاريخه المعقد، والصراعات الخفية التي دارت خلف الكواليس، والتي استقيت الكثير من تفاصيلها من مقابلة شخصية مطولة مع أحد أبرز مؤلفيه، الكندي جون همفري.

أخطر من الجهل البسيط الجهل المركب

خلال تجربة امتدت لثلاثة عقود وما زالت مستمرة حتى اليوم، تعرفت على نوعين من الحقوقيين: أولئك الذين قرؤوا الإعلان وفهموه بعمق، واستوعبوا قيمه النبيلة، حتى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من شخصيتهم. ومن أبرز الأمثلة على هؤلاء الأستاذة القديرة راضية النصراوي – شفاها الله – التي كانت زوجة لأحد زعماء الحزب الشيوعي، وأعتقد أنها كانت شيوعية هي نفسها، لكنها دافعت ببسالة عن مئات السجناء السياسيين، من الإسلاميين وغيرهم، دون مقابل. والحق يقال، كان هناك عدد كبير من المحامين الآخرين، أغلبهم من اليساريين، ساروا على خطاها، وقدموا أروع مثال على المؤمن المدافع عن القيم التي جاء بها الإعلان.

ويمكن القول إن هؤلاء المناضلين جميعًا فهموا فهمًا عميقًا النص الذي يلغي جميع الفوارق القائمة على العرق والدين واللغة والجندر، لصالح القاسم المشترك الأعظم، ألا وهو إنسانيتنا. والأهم من ذلك، هو ثبات المواقف الذي لا يخضع للأهواء والمصالح الشخصية، ورفض الدفاع عن أبناء جلدتنا الأيديولوجية، لصالح الدفاع عن كل بني البشر المظلومين، لا الظالمين.

وعلى النقيض من هذا التيار الذي كان يشكل للأسف أقلية، كان هناك تيار آخر – حتى في القيادة – يتعامل مع النص كمرجع روتيني في البيانات الرسمية، ومع الرابطة كغطاء لنشاط سياسي أنيق وبرجوازي وغير مكلف.

وعندما تحل الأزمة أو تقام الوليمة، كانت تتضح جليًا طبيعة الالتزام الحقوقي وقوته لدى كل فرد، فهذا يسارع إلى الوزارة في ظل نظام استبدادي، وذاك يخرج في مظاهرة صارخًا "بالكيماوي والمزدوج يا صدام"، وثالث يطالب بإعادة العلاقات مع سفاح دمشق التي قُطعت في عام 2012؛ لأن حقوق الإنسان، بالنسبة لهذا الحقوقي العجيب، لا تشمل الإنسان السوري، ولا تشمل التعذيب والفساد. فانتهاك جميع الحريات يصبح مغفورًا لمرتكبيه، طالما أنهم يرفعون أصواتهم ضد الصهيونية والإمبريالية.

إشكالية الخصوصية الثقافية

في عام 1984، بات من الواضح أن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بحاجة ماسة إلى وثيقة تأسيسية، تكون بمثابة المرجعية العقائدية لـ 4000 منخرط.

وهنا نشب خلاف جوهري بين العلمانيين الذين رأوا أنه لا يوجد مرجعية أساسية أخرى غير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وبين الإسلاميين والقوميين الذين زعموا أن هذا الإعلان يتضمن بنودًا تمس عقيدتنا وهويتنا. كادت هذه الخصومة أن تؤدي إلى تفكك الرابطة، في الوقت الذي كنا فيه في أوج معركتنا ضد الاستبداد البورقيبي.

ولوضع حد لهذا الخلاف، قلتُ إن هناك بالفعل أربعة فصول من بين الفصول الثلاثين التي يتكون منها الإعلان تتعارض مع الشريعة الإسلامية (الإعدام، التبني، المساواة في الميراث، حرية الحق في الردة)، ولكن الفصول التي تهمنا جميعًا، مثل الحرية والكرامة والعدل والمساواة، تشكل الأغلبية الساحقة، أي 26 فصلًا. فهل نفضل التوحد حول كل هذه الفصول، أم تفجير الرابطة خدمة للاستبداد، بسبب اختلافنا حول أربعة فصول فقط؟

لحسن الحظ، تغلب صوت الحكمة، وتوصلنا إلى صيغة توافقية تنص على أن مرجعية الرابطة هي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والقيم التحررية لتراثنا الإسلامي، ودستور الجمهورية التونسية.

لكن المعركة لم تنتهِ عند هذا الحد، إذ عايشت في الثمانينيات والتسعينيات زخمًا متزايدًا من المواثيق الإسلامية والعربية والأفريقية، التي تدعي صياغة وثيقة لحقوق الإنسان، تكون نابعة ومعبرة عن خصوصيتنا كمسلمين أو عرب أو أفارقة، وذلك رفضًا للإعلان العالمي، المتهم ضمنيًا أو صراحة، بأنه تعبير عن المركزية الغربية، ومغلف بقشرة رقيقة تدعي تمثيل العالم والبشرية جمعاء.

أذكر أنني في بداية التسعينيات دُعيت للمشاركة في أديس أبابا، مع نخبة من الحقوقيين الأفارقة، لإبداء رأي أفريقي في المعاهدة العالمية لحقوق الطفل، والتي تعتبر آخر غصن نبت من جذع الإعلان. فما كان من ممثلة إحدى الدول إلا أن صرخت في وجهي عندما قلتُ إنه يجب التركيز على منع ختان الإناث، زاعمةً أنني لا أفهم شيئًا كعربي في الثقافة الأفريقية، وأنه عليّ احترام هذه الخصوصية.. إلخ.

وبالتمعن في جميع هذه المواثيق "الخصوصية" التي تكاثرت في تلك الفترة، سواء بهدف استكمال الإعلان أو نقضه، وبمقارنتها بنص العاشر من ديسمبر/كانون الأول، كان من الواضح أنها جميعًا تنتقص من الحقوق والحريات، ولا تزيد فيها، وأنها لم تكن تعبر كما تدعي عن الخصوصية الثقافية، وإنما عن أسوأ ما فيها، على عكس الإعلان.

منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، ما زلت أردد ثلاث قناعات راسخة، أعتقد صادقًا أنها مدعومة علميًا ومعرفيًا وأخلاقيًا:

  • العالمية ليست غلافًا للمركزية الغربية، والدليل على ذلك أن نص الإعلان رفض للغربيين أمورًا، مثل ذكر اسم الله في الديباجة؛ لأن الصينيين اعتبروه شأنًا ثقافيًا خاصًا بالديانات التوحيدية، وفرض عليهم أمورًا أخرى، مثل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. والغريب في الأمر أن أكبر المدافعين عن القيم الغربية، مثل الحرية، كان عربيًا هو شارل مالك.
  • العالمية ليست نقيضًا للخصوصية أو بديلًا عنها؛ لأن ذروة الخصوصية وعلامة نجاحها هي أن تصبح عالمية، والنموذج على ذلك هو تهافت جميع الدول للدخول في قائمة الشرف لمنظمة اليونسكو، التي توثق كتراث مشترك للبشرية أجمل المناظر الطبيعية في بلد ما، أو أهم آثاره، أو أحسن أنواع الموسيقى والفكر والطبخ.. إلخ.
  • العالمية ليست عجينة من الورود ذات اللون الواحد والرائحة المختلفة، وإنما هي باقة ورود تتجاور فيها الألوان والأشكال والروائح، وتتكامل فيها عناصر الرونق والجمال من خلال التنوع، أي الخصوصيات الناجحة التي تقدم أفضل ما لديها للشعوب الأخرى.

وهذا ما يقودنا إلى المعاناة الأخيرة التي يعيشها النص، ألا وهي استمراره تحت ظلال "فوبيا الغرب".

لم أستغرب طوال هذه السنة سماع الأصوات المنددة بـ "نفاق" الغرب، وبنهاية خرافة حقوق الإنسان، وانهيار الديمقراطية. أقول لم أستغرب؛ لأن هذه الأصوات لم تفعل سوى مواصلة التمسك بنفس المواقف الخاطئة التي اعتمدتها طوال العقود الأخيرة.

لا فائدة في تذكير هؤلاء الناس بأنه كما لا يجوز الاحتجاج على الإسلام بجرائم تنظيم الدولة، فإنه لا يجوز الاحتجاج على الديمقراطية وحقوق الإنسان بجرائم بايدن وبلينكن وهاريس.

ولا جدوى أيضًا من تذكيرهم بأن من خرجوا في الجامعات وفي الشوارع لنصرة غزة كانوا غربيين ومنهم يهود، وبأن دولًا غربية مثل النرويج وإسبانيا وأيرلندا اتخذت مواقف معاكسة لدول غربية أخرى، مثل أميركا وبريطانيا وألمانيا، أو أن المحكمة الجنائية الدولية، خلافًا لما كانوا يتوقعون، رفضت الإملاءات والتهديدات الأميركية لمواصلة متابعة مجرمَي الحرب نتنياهو وغالانت، مثبتة أن القانون الدولي، مهما كانت نواقصه وصعوبات تطبيقه، ليس إرادة الغرب ولعبة بين يديه.

هم يذكرونني دومًا بمقولة السيد المسيح عن سهولة رؤية القشة في عين الآخر، والتغاضي عن العمود الذي في عيننا. فمعاداتهم للغرب مبنية على نفس الآليات الفكرية والنفسية التي يدينونها عندما يتحدثون عن الإسلاموفوبيا.

هم أيضًا يمارسون الخلط بين المستويات والتبسيط والتسطيح وسوء النية، وقدر كبير من الضغينة وحتى الكراهية للآخر.

إن من حق هؤلاء الناس إدانة العنصرية الغربية – وهي موجودة – والإسلاموفوبيا – وهو واقع للأسف – لكنني أقترح عليهم أن ينسوا ضغينتهم ضد الغربيين لحظة للتفكير في معنى تجند يابانيين مثلًا لوقف الإبادة الجماعية في غزة، في الوقت الذي تبدو فيه شعوب الرعايا العربية شبه غير معنية أو سلمت بعجزها في وقف المجازر المروعة.

ما الذي يجعل هذا الياباني يتحرك من أجل غزة؟ طبعًا مشاعره الإنسانية التي تهتزّ أمام هول الجرائم المرتكبة، وشعوره بأنه عليه أن يفعل شيئًا ما، ولو كان مجرد التظاهر. أكان يفعل هذا لو لم يكن واعيًا بأن له مسؤولية أخلاقية في الوقوف بجانب الضحايا والتنديد بجلاديهم؟

والآن ماذا وراء هذا الشعور بالمسؤولية؟ إنه الشعور بالانتماء، لأن الانتماء والمسؤولية وجهان لعملة واحدة تسمى الهوية.

بالمسؤولية تجاه غزة يظهر الياباني أو الغربي أو اليهودي أنه تجاوز طبقة معينة من هويته العرقية والدينية ليرتقي إلى أعلى مستويات الانتماء /المسؤولية أي الانتماء إلى الإنسانية.

انتبه لكون الارتقاء من طابق لما فوقه لا يعني التنكر للطابق التحتي، وإنما دمجه والبناء عليه للصعود إلى طابق أعلى. أنا جنوبي من تونس، فخور ومعتز بأصولي البدوية، مثلما أنا معتز بعروبتي وإسلامي ومغاربيتي المبنية على تمازج عربي أمازيغي أفريقي متوسطي.

على هذه الطوابق الصلبة من الانتماء والمسؤولية أبني إنسانيتي، هذا الطابق من هويتنا الجماعية الذي يؤسس له الإعلان العالمي لحقوق الإنسان النص الوحيد القاطع للثقافات وللأديان، وللأعراق، والثقافات واللغات.

مساكين الذين بقوا عالقين في الطوابق الأدنى من الهوية، كم من آفاق أغلقوها على أنفسهم ليعيشوا في مغارة بدل العيش في الفضاء الذي لا يحده أفق.

هنيئًا للحقوقيين في كل العالم عيد ميلاد النصّ العظيم الثامن والسبعين، وكل ديسمبر، وأنتم بألف خير وعددكم يزداد، فالعالم المثخن جراحًا بأمسّ الحاجة إليكم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة